يتبع درس العادة والارادة
أنواع العادة
3 ـ العادة كأداة في خدمة التكيف:
إن العادة كاستجابة آلية للظروف التي تتطلبها المواقف الحياتية المتعددة سواء تعلق الأمر بصنوف التفكير أو طرق التصرف أو التعبير عن النماذج الخلقية، كلها تبرز الدور الحيوي الذي تلعبه العادات في تحقيق التكيف والتوافق بين الفرد وبيئته الطبيعية والاجتماعية، فبالعادة يكون المرء مستعدا لمواجهة المواقف، والتعامل معها بمهارة وفعالية.
فالعادة تحرر الانتباه والإرادة، وتخفف من ضغط التفكير، وعمل الإدراك، نتيجة الترابط الآلي في أفعالها.
كما تكسبنا إتقان الأعمال والإبداع فيها، لأن التمرس على الشيء وخبر عناصره يمكن الذات من انجازه بأفضل الطرق، وأمهر الأساليب.
كما أن العادة تؤدي إلى الاقتصاد في الجهد والوقت والثقة في النفس والابتعاد عن التردد وهذا يساعد الذات على إبراز مواهبها وإمكاناتها.
كما أن للعادات اتصالا وثيقا بالأخلاق واكتساب الفضائل أو الرذائل، فصفة الأمانة مثلا: من وطن نفسه على سلوك الأمانة، واعتاد عليه، لا يقف مترددا في أحكامه، ولا ينفق جهدا أو عناء في اصطناع سلوكها، أما غيره الذي لم تغرس فيه صفة الأمانة فكثيرا ما تغريه الخيانة... ويستلزم الأمر عندهم جهدا كبيرا من قوة الإرادة وأحكام الإدراك، لالتزام الأمانة، ولهذا يقول جون ديوي: (كل العادات تدفع إلى القيام بأنواع معينة من النشاط، وهي تكون النفس، وهي تحكم قيادة أفكارنا فتحدد ما يظهر منها وما يقوى، وما ينبغي له أن يذهب من النور إلى الظلام).
غير أننا نشير إلى أن العادات إن لم يصحبها الوعي والانتباه ويراجع مسارها من حين إلى آخر فإنها تتحول بمرور الزمن إلى قدرة مستبدة تحكم سيطرتها على الذات ويصبح من الصعب الإفلات منها، ومن وحي هذا القبيل يقول برودوم: « إن جميع الذين تستولي عليهم قوة العادة يصبحون بوجوههم بشرا وبحركات آلات » لأنها تطبع الفكر برتابة وتحجر قاتل، وتمسك السلوك بروتين ممل وتقف عقبة أمام التغير والأفكار الجديدة، وتشجع على التقليد والتعصب للرأي وهذا ما يعيق إرادة الإنسان ويحد من فعاليته. وعليه يمكن أن نستنتج أن للعادة آثارا سلبية،وأخرى إيجابية، ولكن مهما قيل عن آثارها السلبية فإنها مع ذلك تبقى بلا منازع، أداة حيوية للتكيف، شريطة الانتباه للعادات السيئة وتقويمها بتدخل الإرادة، وإحلال عادات حسنة مكانها، لأن العادة ليست سلوكا آليا خالصا، بل تبقى تحت مراقبة الوعي والإرادة.لكن ماذا نقصد بالفعل الإرادي؟ وما هي طبيعته؟
طبيعة الفعل الإرادي والخصوصية الإنسانية:
مفهوم الإرادة: الإرادة هي:
« قدرة الذات ونزوعها إلى الفعل،مع وعي الأسباب الصادرة عنها،والعزم على الفعل أو الكف عنه ».
وما يمكن أن يفهم من هذا أن الفعل الإرادي فعل يصاحبه الوعي، وتبرز فيه قدرة الذات على التمييز والاختيار بين الأفعال بالتنفيذ أو الترك.
2ـ شروط الفعل الإرادي:وهي المحددات التي يبنى عليها الفعل الإرادي، وتعبر عن أسس وجوده وهي:
تصور المثل الأعلى: إن تصور المثل الأعلى ضروري لكل إنسان،وهو يختلف باختلاف الأشخاص، ويتبدل بظروفهم المادية والنفسية والاجتماعية.
الإيمان بالنفس: إن الحياة مبنية على الإيمان،وإذا لم يؤمن الإنسان بنفسه يخسر معركة الحياة.
تنظيم الأفكار: إن الناس يتفاوتون في قوة الإرادة كما يتفاوتون في قوة العقل، فالإرادة الصحيحة تعتمد على قوة الأفكار وتنظيمها، وسيطرة النفس على العواطف والرغبات، إن أعظم الرجال هم الذين لهم القدرة على السيطرة على عواطفهم وأهوائهم وإدارة أنفسهم بأنفسهم.
3ـ صفات الفعل الإرادي:
الفعل الإرادي قرار شخصي: حيث يتبدل بتبدل الأفراد،إذ يتحمل الفرد تبعة قيامه به، وبذلك يكشف عن جانب من خصال الشخص وأخلاقه، إنه مخالف للفعل الاعتيادي، لأن العادة تقوم على التكرار، ومخالف للغريزة لأنها عمياء.
الفعل الإرادي فعل واع تأملي:
إن الشخص الذي يريد شيئا يدرك ما يفعل، وبالتالي يشعر بفعله ويعيه، ويدرك تماما الغاية من فعله لأنه فعل معقول، فالمرء قد يرغب في أشياء قد يكون من المستحيل تحقيقها، ولكنه لا يفعل إذا لم يرد عقله ذلك.
الفعل الإرادي فعل جديد: وتتصف جدته في أنه يمنع الشخص من الاندفاع الآلي إلى الفعل، فيحول الغريزة أو العادة إلى فعل واع فيه قصد، وينظم الحركات والأفعال والتصورات تنظيما يتوافق والظروف الطارئة.
مراحل الفعل الإرادي: يقسم الفعل الإرادي إلى أربعة مراحل:
تصور الهدف: لابد للشخص من تصور الفعل والهدف منه، فالطالب لا يقرر الفعل إلا بعد أن يتصور الهدف من الدراسة وهو النجاح في الامتحان.
المداولة(المناقشة): من الضروري للشخص قبل أن يقرر القيام بالفعل أن يناقشه، وهذه المناقشة تأخذ شكل الأخذ والرد، أي الحكم بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل.
القرار: عندما يناقش المرء حالات متعارضة في الغالب، فإنه يخلص في النهاية إلى اتخاذ موقف أو قرار ينهي المناقشة.
التنفيذ: لا يمكن اعتبار القرار فعلا تاما، إلا إذا كان مصحوبا بشيء من التنفيذ، فلا يعتبر الفعل منجزا إذا بقي عبارة عن نية، بل لا يعتبر كذلك إلا متى احتاج قرار الفعل إلى تنفيذ، والتنفيذ لا يكون إلا بفعله تماما.
الفعل الإرادي والتكيف:
الإرادة كفعل إيجابي في التكيف: إن قيمة الفعل الإرادي وفاعليتها تتجلى في أنه فعل يعبر عن صميم ذاتنا وكامل شخصيتنا واختيارنا وقراراتنا الواعية.
كما أن الفعل الإرادي ليس فعلا اندفاعيا ولا تلقائيا بل هو فعل قصدي تحدده الأسباب والمبررات العقلية، المبنية على التفكير والمناقشات المختلفة لأوجه الفعل لإثبات صحة ما يمكن أن نقدم على تنفيذه، أو العزوف عنه، وفق قواعد وضوابط تحدد الصواب، وهذا ما يجعل من الفعل الإرادي أرقى أنواع التكيف، ومن أهم الأسس في تحقيق التوافق والانسجام بين الفرد وبيئته.
وفوق هذا الفعل الإرادي، قدرة على العمل وعزم على التنفيذ وحكمة في مواجهة مختلف المواقف، ومعالجتها بطرق جديدة وفعالة ومنسجمة مع الواقع، وهذا ما يعطي للفعل الإرادي اعتبارا وقيمة عملية تجعله أنموذج التكيف الإيجابي.
لكن هذا الوجه الإيجابي للإرادة لا يخفي بعض الجوانب السلبية لها:
الإرادة كانفعال يعيق التكيف: إن الإرادة فاعلية حرة، أساسها العقل وقدرة التمييز والاختيار، نجدها تتعايش في محيط تتنازعه الانفعالات واندفاعاتها، والأهواء والميول وأمنياتها، والرغبات وأحلامها، فإذا تضاربت كل هذه الجوانب، واستبدت بصاحبها نحو توجهات جامحة، تغيب الإرادة، ولا يصبح أي مبرر لوجودها. ويظهر ذلك بوضوح عند ضعفاء النفوس والمنحرفين... الذين تهيمن عليهم الرغبات وتسيطر عليهم الاشباعات والميول المضادة للإرادة والمثبطة لعملها وتأثيرها، أو حكم على الذات وعلى توجيهها إلى الصواب أو ردعها عن رغباتها وميولها. وهذا ما يقضي ويعيق دور الإرادة في تحقيق التكيف، على اعتبار أنها قرار حاسم وقوي يقطع التنازع والرغبات الحالمة.
وبناء على هذا فالإرادة لكي تحقق التكيف الإيجابي عليها أن لا تخضع لمنطق الانفعالات والأهواء، برغم معايشتها لها كجانب من جوانب الذات، وأن تتمرس وتتعود على كبحها وترويضها لتنسجم مع الإرادة وأحكامها، وبهذا تتجاوز مأزق التكيف.