مقالة حول طبيعة الذاكرة هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية
مقالة فلسفية
هل الذاكرة ذات طبيعة مادية بيولوجية أم نفسية بسيكولوجية ؟
مرحباً بكم متابعينا الأعزاء طلاب وطالبات البكالوريا 2022 يسرنا بزيارتكمفي موقع االحل المفيد أن نقدم لكم مقالة فلسفية حول طبيعة الذاكرة وهي تحليل نص السؤال الذي يقول هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية
الإجابة هي كالتالي
هل الذاكرة ذات طبيعة مادية بيولوجية أم نفسية بسيكولوجية
هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية
طرح المشكلة :
الإنسان بطبعه كائن فضولي يسعى إلى معرفة العالم الخارجي وكشف غموضه ، ولا يتأتى له ذلك إلا عن طريق مجموعة من الوسائل أهمها الذاكرة والخيال ، فالذاكرة من حيث مفهومها هي قدرة الإنسان على إستحضار الماضي وتذكره كما حدث في زمانه ومكانه ، ولكن موضوع طبيعة الذاكرة طرح جدلا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس ، حيث ذهب البعض الآخر إلى إعتبار الذاكرة ذو طبيعة مادية ، بينما ذهب البعض الآخر إلى اعتبارها ذو طبيعية نفسية ، وبين هذا وذاك وجب طرح التساؤل التالي : هل الذاكرة من حيث ماهيتها مادية بيولوجية أم نفسية بسيكولوجية ؟
محاولة حل المشكلة :
الموقف الأول : يرى العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم " ديكارت ، ريبو ، تين ، إبن سينا " أن الذاكرة ذات طبيعة مادية ، حيث إعتبر " ديكارت " أن الذاكرة وظيفة مرتبطة بالدماغ ، والدماغ مرتبط بالجسد والجسد ذو طبيعة مادية بيولوجية ، بالتالي فالذاكرة مادية مشابهة للجسم ، وهذا ما أكده ديكارت في قوله : « الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم » ، والدليل الذي إستند عليه هؤلاء يكمن في أن أي تلف يصيب خلايا الجهاز العصبي المسؤولة عن تخزين الذكريات ، ينتج عنه ضرورة فقدان التذكر كما يتجلى في أمراض الذاكرة مثل : الحبسة الحركية المصاحبة للإصابات التي تمس منطقة البروكا المسؤولة عن حفظ الذكريات ، كما أن حدوث نزيف في الفص الجداري الأيمن يحدث فقدانا للمعرفة الحسية ( اللمس ) ، وفي نفس هذا الطرح يرى " ريبو " أن الذاكرة مرتبطة بالجهاز العصبي عموما والدماغ خصوصا ، بمعنى أن الذكريات تخزن في خلايا القشرة الدماغية ويتم إسترجاعها كلما كان تنبيه أو أثر مماثل ، كما أن هنالك حوالي ستمائة مليون مليون خلية تقوم بتسجيل وتخزين ذكريات معينة ، وهذه الذكريات تترك آثارا مادية على الدماغ ، وبهذا المعنى تصبح الذاكرة مجرد أسطوانة تسجل الصور الفوتوغرافية والأغاني ، كما أن التخزين الآلي للذكريات يكون عن طريق التكرار ، وهذا لأن ترسيخ الحوادث والمعلومات لا يتم إلا إذا تكررت مرات عديدة ، وبالتالي فنحن ننسى الذكريات الحديثة قبل القديمة ، وهذا ما أكده في قوله : « إن الذكريات الراسخة هي التي إستفادت من تكرار
طويل » ، فالذكريات تسترجع عندما يكون هناك أثر مماثل مثل : الكلمة ، الصورة ، التاريخ ...الخ ، أي أن الإدراكات المماثلة تفيق الذكريات القديمة ، كما أكد ريبو في كتابه ( أمراض الذاكرة ) أننا نفتقد ذكرياتنا إذا كان هناك تخريب أو تلف في الخلايا الدماغية ، فحدوث إصابة في الدماغ يؤدي إلى فقدان كلي أو جزئي للذكريات ، فإصابة منطقة البروكا ( التلفيف الثالث من الجهة الشمالية ) يولد مرض الحبسة الحركية وتعني عدم القدرة على النطق ، وحدوث نزيف في الفص الجداري الأيمن يؤدي إلى فقدان المعرفة الحسية ( حاسة اللمس ) من الجهة اليسرى ، وبالتالي حسب ريبو أن الذاكرة ذات طبيعة مادية يمكن تحديد آلياتها ومكان نشاطها ، فعملية تثبيت الذكريات وإسترجاعها مرتبط بأجهزة عضوية بيولوجية موجودة على مستوى الدماغ ، يقول ريبو : « إن الذاكرة ظاهرة بيولوجية بالماهية وسيكولوجية بالعرض » ، وهنا تبدو الذكريات كما لو كانت موضوعة في منطقة خاصة بالدماغ ، وبما أن الماهية هي المعبر الحقيقي عن الشيء فإن الذاكرة في حقيقتها بيولوجية ، بينما الطبيعة النفسية خاصية ثانوية وعرضية فقط ، ويفسر " تين " هذه العملية في قوله : « المخ وعاء يستقبل ويخزن مختلف أنواع
الذكريات » ، وقد حدد إبن سينا منطقة تخزين الذكريات في التجويف الأخير في الدماغ ، حيث يقول في هذا المنوال : « الذاكرة قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ » .
نقد وتقييم :
لا يمكن إنكار طرح هؤلاء في إعتبار أن الذاكرة ذات طبيعة مادية ، ولكن لا يمكن إعتبارها بأنها مادية بيولوجية بحتتة ، فلو كانت الذاكرة مرتبطة فقط بسلامة الدماغ والأجهزة العصبية فكيف نفسر فقدان الكثير من الأفراد لأغلب ذكرياتهم رغم سلامة جهازهم العصبي وخلاياهم الدماغية كما يحدث في الصدمات النفسية ؟ . أما من الناحية المنطقية كيف للذكرى من حيث أنها معنوية أن تخزن في ما هو مادي ؟ . فلا يمكن ربط الذاكرة بالجوانب البيولوجية والمادية وحدها ، ولو سلمنا مع ريبو أن فقدان الذاكرة راجع إلى إصابة في الدماغ ، هنا المفروض أن الذكريات المفقودة لا تعود نهائيا لكن بعض الحالات تؤكد إسترجاع بعض الأفراد للذاكرة بعدما فقدوها ! . وهذا فيه إبطال لطرح ريبو ، ومن هنا ظهر إتجاه آخر يرى أنصاره أن الذاكرة ذات طبيعة نفسية ؟
الموقف الثاني :
من جهة أخرى يرى العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم " هنري برغسون " أن الذاكرة ذات طبيعة نفسية بسيكولوجية ، وبالتالي فالذاكرة ترجع إلى خصائص شعورية ، فهي عملية نفسية واعية قوامها الشعور ، وقد عرفها " أندري لالاند " على أنها
« إعادة بناء حالة شعورية ماضية ثم التعرف عليها من حيث هي كذلك » ، هذا بحيث لا نعيد هنا الذكريات بصورة آلية لأن مجال التخزين هو النفس والآثار التي تتركها معنوية لا مادية ، ومثال ذلك الصدمات النفسية التي تترك جروحا عميقة في النفس ( رؤيتنا لحادث مرور يبقى راسخا رغم أنه لم يتكرر إلا أننا متذكره باستمرار ) ، حيث يرى " برغسون " أن الاحتفاظ بالماضي يتم وفق صورتين مختلفتين جوهريا : صورة آلية محزنة في الجسم ، ويسميها برغسون بذاكرة العادة ، وهي ذاكرة بيولوجية حركية تقوم على أساس البدن وتأخذ شكل عادات آلية ، أما الصنف الثاني وهي ذاكرة نفسية أو الذاكرة النفسية الشعورية ، وهي ذاكرة مستقلة عن الجسم ذو طبيعة روحية ، ويحكم برغسون أن الذاكرة النفسية هي الذاكرة الحلقة وليست ذاكرة العادة ، ومنه لما كانت ذاكرة الذاكرة مرتبطة بالشعور والنفس فلابد أن تكون ذو طبيعة نفسية روحية خالصة ، فالعالم الرئيسي في إثبات وتثبيت الذكريات هو الإهتمام وهو عامل نفسي وليس آلي ومادي ، يقول برغسون : « إن الشعور إنما يعني أولا وبالذات الذاكرة » ، وفي منوال آخر يقول : « إن الشعور هو ذاكرة أعني أنه حفظ الماضي في الحاضر وتجمع الماضي في الحاضر » ، وهذا ما أغفل عنه أصحاب التفسير المادي لأنهم حسب برغسون أخلطو بين النوعين السابقين واكتفوا بالذاكرة الحركية مهملين الذاكرة النفسية الأهم منها ، ويثبت برغسون هذا التميز من خلال مقارنته بين خصائص كل نوع ، فالإصابات الدماغية في الجهاز العصبي لها تأثير على الآليات الدماغية التي تحفظ ذاكرة العادة بينما ليس لها أثر على الذكريات النفسية ، كما أن الإكتساب في النوع الأول ( ذاكرة العادة ) يكون بالتدرج والتكرار ، بينما في ذاكرة الذاكرة يكون دفعة واحدة وبدون تكرار ، مثال ذلك عند إدراكنا لحادث مرور ماضي فلا يستدعي تكراره كي يكتسب ، كذلك قدرة الإسترجاع : فذاكرة العادة مرهونة بمدى تكرارها ، لهذا يعمد التلميذ إلى حفظ دروسه أثناء المراجعة ، بينما إسترجاع الذكريات على مستوى الذاكرة النفسية مشروط بمدى تأثيرها على ذاتية الإنسان ودرجة الألم أو اللذة التي تخلفها الحادثة .
نقد وتقييم :
على الرغم من مساهمة برغسون في توضيح موضوع الذاكرة ووظائفها المتعددة إلا أنه بالغ في الفصل بين ماهو نفسي وبين ماهو عضوي ، وبالغ كثيرا في تمجيد الجانب النفسي وجعله المعبر الوحيد عن طبيعة الذاكرة ، فبما أنه أقر بوجود نوعين كان عليه الإقرار كذلك بوجود طبيعتين ! . ولا وجود لكبرى منطقي أو علمي يثبت أن الذاكرة ذات طبيعة نفسية بحتة ، فلو كانت كذلك كيف تفسر الفقدان الكلي أو الجزئي للذكريات أثناء إصابة الدماغ ؟ .
تركيب :
من خلال ما سبق ذكره يمكننا القول بأن الذاكرة ذات طبيعة مادية بيولوجية وكذلك ذات طبيعة نفسية ، فمن الخطأ إعتبارها أنها عملية آلية محضة تابعة للدماغ فقط ، ولا كذلك إعتبارها عملية نفسية فقط ، فكلاهما يمثلان جوهر الذاكرة ، بالاضافة إلى طبيعة أخرى في بناء الذكريات وهي الطبيعة الإجتماعية ، حيث يرى " هاليفاكس " أن أهم عامل مؤثر في عملية التذكر هو العامل الإجتماعي ، وبالتالي فالذاكرة ذات طبيعة اجتماعية كذلك ، فالمجتمع في نظره هو ما يساعد الإنسان على التذكر من خلال العادات والتقاليد التي سماها بـ " الأطر الاجتماعية للذاكرة " ، حيث يقول : « إن الماضي لا يحتفظ به وإنما يعاد بناءه من الحاضر ، والذاكرة تكون قوية عندما تنبعث من نقطة التقاء الأطر الاجتماعية » .
حل المشكلة :
في الاخير يمكننا القول بأن الذاكرة ليست ظاهرة مادية فيزيولوجية بحتة وليست ظاهرة نفسية بحتة ، بل هي تكامل ومزيج بين البنية العضوية والبسيكولوجية وكذلك الإجتماعية ، وبالتالي فالذاكرة وظيفة إنسانية تجمع بين الطبيعة الروحية المرتبطة بالنفس والمادية المتعلقة بالجسد ، لكن وجود الذكريات كمخزون أساسي للذاكرة متوقف على وجود حياة إجتماعية ، وهذا باعتبار الإنسان يصنع ذكرياته في إطار جماعة من الأفراد وليس في إطار فردي خالص .