هل الزمان يسير إلى ما لا نهاية أم أن الزمان سيعيد نفسه؟
في العود الأبدي بين نيتشه والإنفجار العظيم
هل الزمان يسير إلى ما لا نهاية أم أن الزمان سيعيد نفسه؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي سيجيب عنه نيتشه، حيث سأعقد بدوري مقارنة بين إجابته تلك ونظرية الإنفجار العظيم في الفيزياء النظرية كما عرضها ستيف هوكنج والتي تحاول تفسير أصل الكون ومصيره...
تثير فكرة العود الأبدي آراء ليست مألوفة إلا في الأساطير الهندية المقدسة القديمة حول الأبدية والخلود وعودة الزمن وإمكانية إلتقاء زمن الماضي مع زمن المستقبل في نقطة حاسمة هي الآن، وهذا يتحقق إذا كان الزمن يسير بشكل دائري وليس بصورة مستقيمة إلى الأمام يقول : " إن كل إتجاه على خط مستقيم إنما هو إتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله وآخره"....
وتفترض فكرة العود الأبدي أن الكون والإنسان وكل الأشياء سيعاد خلقها من جديد بعد موتها وفنائها وهذه الدورة الحياتية ليست هي النهاية إذ ستعقبها دورات مشابهة لها وإلى الأبد، فكل دورة حياة تشبه التي سبقتها وكأنها نسخة عنها فالإنسان وكل الموجودات ستظهر على مسرح الحياة كما في السابق دون زيادة أو نقصان، وأن الأحداث والظواهر وكل النشاطات التي جرت في الحياة، ستعود كلها مرة أخرى، مشابهة آلي الدورة السابقة، يقول نيتشه : " ماغريب عنا تعليمك يازارا، فأنت تقول بأن جميع الأشياء تعود أبدا، ونحن معها عائدون، وأننا وجدنا من قبل مرارا لا عداد لها ومعنا جميع الأشياء أيضا)... هذا التعاقب الأبدي لدورات الحياة سيجعل اللقاء بين زمن الماضي وزمن المستقبل عند بوابة إسمها ( الآن) حتميا ولا مفر منه....
وليس غريبا أن يكون نيتشه قد هدف من هذه الفكرة تعويض الإنسان عن الخلود والأبدية، ويجد فيهما الإنسان عزاء له من رعب العدم،بخلود من نوع آخر يتماشى مع العلم، وَالموضوعية.... " انظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما أحدهما منحدر يمتد إلى أبدية، والآخر مرتفع يمتد إلى أبدية أخرى.. المسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب، وقد كتب اسمه علي رتاج واحد ( الحين)"... المسالك المنحدر يقصد به الدرب الذي يتجه إلى الماضي، أما المسالك المرتفع فهو الدرب الذي يتجه إلى المستقبل، لقد جعل نيتشه من ( زرادشت) مباشرا بهذه الفكرة ليؤشر على أنها قديمة خرجت من الفكر الهندي القديم الذي كان مهتما بمراقبة الظواهر الكونية كحركة النجوم، وظاهرتي الكسوف والخسوف، والفيضانات والحوائق وأمور أخرى، إضافة إلى إنشغاله بمصير الإنسان بعد موته، فهذا الفكر يؤمن بأبدية الكون والإنسان وعدم فنائهم....
لقد كان هذا الفكر إنعكاسا للمعتقدات والأساطير التي كانت شائعة بين قبائل وشعوب الهند وجنوب شرقي آسيا، فتدمير الكون وفناؤه ( حرائق، فيضانات، زلازل، براكين،... الخ) لا يعني بمعتقداتهم النهاية الأزلية للكون، بل إنه سيعاد خلقه من جديد وسيمر بنفس مراحل الدورة السابقة : ولادة، ارتقاء، إنحطاط، فناء.. وهكذا في كل دورة كونية بعد أخرى وإلى الأبد...لقد حددت الأساطير القديمة فترة زمنية لحياة كل دورة وهي ألف سنة ( فكرة الألفية جاءت من الأساطير)، فبعد كل ألف سنة يحدث تجديد ( إعادة خلق)، للكون وبالعكس من فكرة ( العود الأبدي) فإعادة خلقه بعد فنائه يكون في سنة يسميها نيتشه ( السنة الكونية)، وهي سنة مجهولة بعدد سنواتها لكل دورة كونية... يبدو أن هذه الفكرة قد مهدت لنظرية الإنحسار العظيم عند ستيف هوكنج في منتصف القرن العشرين حيث تقول هذه النظرية ذات الأساس العلمي أن الكون سينحسر على نفسه ثم ينبثق مرة أخرى بنفس الترتيب والشكل مرات لا متناهية....
لجأ نيتشه إلى نظريات في علم الطبيعة ليثبت صحة نظريته وتثبت بالنظرية التي تقول أن القوي الموجودة في الكون ثابتة ومحدودة... وربما لو قدر له العيش حتى القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين لشهد أدلة ذلك بأم عينه كيف أحالت الفيزياء فكرته تلك إلى نظرية علمية تكاد تقترب من اليقين النهائي، فناقش فكرته على ضوء ثلاث فرضيات، الأولى تؤكد أن إعادة الحياة وعودة الأشياء والموجودات والإنسان الشبيه من جديد، لا يتعارض مع روح هذه النظرية العلمية فإن أي زيادة أو نقصان لا يحصل في قوة الوجود ( الثابتة)، أما الفرضية الثانية التي تقول أن قوى الوجود في حالة تزايد فإن نيتشه يعرضها ويتساءل من أين جاءت هذه الزيادة وليس هناك من وجود غير هذا الوجود فيفترض وجود معجزة إلا أنه يرفض هذا الإفتراض الذي سيخرجه من دائرة " البحث العلمي" إلى دائرة الأساطير والخوارق، ( فلكي يكون هذا الفرض صحيحا كان علينا أن نقول بوجود معجزة دائمة بها تحدث هذه الزيادة وهذا ما لا نستطيع مطلقا التسليم به ما دمنا نبحث بحثا علميا، وإلا خرجنا من دائرة العلم الخالص إلى دائرة الأساطير والخوارق)...
أما الفرضية التي تقول ( أن الكون في حالة تناقص) فالمفروض أن قوى الكون الآن قد نفدت، وذلك لأن الكون كان موجودا عبر ما لا نهاية له من الزمن ففي هذه اللا نهائية السابقة على اللحظة الحاضرة كانت القوي إذا كانت تتناقص تكون قد تبددت كلها...
وهذا القول مخالف لقانون ( مصونية الطاقة) النظرية العلمية التي تؤكد على أن مجموع القوي الموجودة في الكون رغم كونها متناهية هو ثابت ومحدد هي وحدها التي تلائم فكرة نيتشه في ( عودة الأشياء والموجودات) فإن هذه العودة لا تشكل زيادة في قوة الوجود، لأنها هي نفسها قوي الوجود ( أو جزء منها) والتي ستعاود الظهور على مسرح الحياة من جديد، ويعول نيتشه على الزمان اللا متناهي في لحظة من لحظاته على عودة تركيب وجود سبق وإن وجد من قبل، وهذا التركيب بدوره سيجر وراءه تراكيب أخرى مرتبطة به، وهذه التراكيب بدورها هي أيضا ستجر التراكيب التابعة لها وهكذا فإن مجموع الظواهر والأحداث ستكرر من جديد بنفس النظام والطريقة والمقدار الذي وجدت عليه في الدورة السابقة على هذه الدورة التالية....
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي معلقا على فكرة العود الأبدي لنيتشه : " فالإنسان منا إذن، تبعا لهذه النظرية سيحيا من جديد نفس الحياة التي يحياها الآن، ولهذا يقول زرادشت : ( سيأتي يوم فيه تعود من جديد سلسلة العلل التي أنا مشتبك فيها وستخلقني من جديد... وأنا نفسي سأكون من بين علل العود الأبدي)".....
يختلف التأويل الوضعي لهذه النظرية عن الوجودي في أنه يعتبرها نتيجة لمقدمات علمية... يقول الدكتور فؤاد زكريا :
" لنا أن نعد فكرة العود الأبدي من النتائج الرئيسية للمذهب الآلي، بل هي نتيجته الفلسفية الكبرى... فالعالم في رأي هذا المذهب آلة عمياء، من شأنها أن تمر بنفس الحالات مرات لا متناهية".... بينما تعتبر هذه النظرة بحسب التأويل الوجودي مقدمة تستهدف نتائج معينة تخدم بشكل مباشر وغير مباشر نظرية أخلاقية.....
يعتبر التأويل الوضعي أن قول نيتشة بهذه النظرية كان محاولة للقضاء على اللا علمية في التفكير الأسطوري وكان نتيجة لأخذه بالمبدأ العلمي الآلي الكلاسيكي الذي كان يعتمد مبدأ النسبية العام ومبدأ إطراد الطبيعة وصولا إلى الحتمية ورفض التفسيرات اللا هوتية لظواهر الكون....
حاول نيتشه كما رأينا تقديم دليل منطقي على تلك النظرية كالآتي : إن مجموع القوي الموجودة في الكون ثابت محدد، وذلك لأن المسألة لا تتعدى ثلاثة فروض : فإما أن يكون هذا المجموع يزيد، وإما أن ينقص، وإما أن يكون ثابتا، والفرض الأول غير صحيح، لأنه إن كان يزيد فمن أين تجيئه هذه الزيادة؟، وليس الفرض الثاني بأقل تفاهة وبطلانا، لأنه إذا كان يتناقص فلابد أن تكون قوي الكون كلها قد إستنفدت وفني الكون.... لم يبق إذن، إلا التسليم بأن مجموع القوي الكونية ثابت محدود... ولما كان الزمان لا نهائيا... فلابد أن تأتي لحظة من لحظاته، فيها يعود تركيب ما سبق وجوده من قبل......
الأساس الوحيد إذن لهذه الفكرة هو إكمال البناء الأخلاقي لما بعد العدمية، والذي لن يكتمل ( بالمعنى الأخلاقي) إلا بنفي كل غائية وكل تناه عن هذا العالم من جهة، ومن جهة أخرى بسيطرة الإنسان على الزمن، وهذه السيطرة للإنسان على الزمن ذات أهمية وجودية كبري، لأن الكون لو كان غير متناه أو كان متناهيا فإن ذلك لن ينقذ الإنسان من اليأس والنكوص والإرتكاس الخلفي.... نظرا للإحساس الإنسان بأنه ضحية للزمن، ولكن العود الأبدي، يتغلب على هذا الإحساس ويعيد للإنسان ثقته بنفسه وقدراته، فإنجازات البشرية البطولية لن تزول، بل سوف تعود مرة جديدة كل دورة جديدة بحذافيرها، عندما يصير الكون ملتئما تماما على الإنسان دون أية علل خارجية.
*