مقالة الفرضية العلمية جدلية
الإجابة هي كالتالي
مقالة جدلية : هل يمكن الاستغناء عن الفرضية ؟ هل للفكرة المسبقة دور في الملاحظة والتجربة ؟.
تنطلق الدراسات العلمية على اختلاف مضمونها ومنهجها من مرحلة البحث حيث يحرك العلماء اسئلة وإشكالات محيرة تقودهم الى مرحلة الكشف وذلك من خلال بناء ملاحظات واستنتاجات مختلفة ، غير أن مكانة الفرضية في المنهج التجريبي عرفت جدلا كبيرا بين الفلاسفة والعلماء حول ما إذا كانت ضرورية أم لا، وهي في التصور العام تخمين أو تفسير نتقدم به لظاهرة ما أو لتحديد العلاقة القائمة بين مجموعة من المعطيات الواقعية و يعبر عنها أرنست ماخ بقوله أنها : '' تفسير مؤقت لوقائع معينة بمعزل عن امتحان الوقائع إذا ما امتحن في الواقع أصبح من بعد ، إما فرضا فاشلا يجب العدول عنه إلى غيره ، و إما قانونا يفسر مجرى الظواهر '' ، و الذي تجب الإشارة إليه بهذا الصدد هو أن هناك نقاش فكري حاد بين الباحثين و المفكرين حول أهمية و ضرورة الفرض العلمي ، فهناك من يرى أنه يمكن الاستغناء عن الفرضية و هذا لأنها قائمة على أفكار و تصورات ميتافيزيقية تعرض البحث العلمي إلى خطر التناقض ، في حين رأى البعض الآخر أن الفرضية خطوة منهجية ضرورية في البحث العلمي شأنها شأن الملاحظة والتجربة ، وأمام هذا الإختلاف نتساءل ما قيمة ما نصل اليه عن طريق الفرضية ؟ . وهل يمكن الاستغناء عن الفرضية أم أنها مطلب ضروري ؟.
يرى التجريبيون أمثال جون ستيوارت ميل وماجندي و آلان أن المنهج التجريبي هو المنهج الاستقرائي القائم على الملاحظة والتجريب ولا مكان فيه للفرضية ، وتتجلى نظرتهم هذه في أنه يمكن استبعاد الفرض من التجريب العلمي باعتبار أنه يقوم على التكهن والظن والعلم أسمى من ذلك ، فالفرضية هي افتراض مسبق أو سابقة زمنيا عن التجربة ومن هنا تبدو سلبياتها من حيث أنها توجه عملية الفرضية العلمية للتجربة قهرا نحو تلك النتيجة المتخيلة من قبل، وهنا تظهر الذاتية كعائق إبستيمولوجي أمام البحث العلمي الموضوعي المتحرر من أهواء الباحث وأرائه الشخصية الأولية لذلك يرى " ماجندي " أنه لا داعي علمي من الافتراض في كثير من الحالات و لهذا كان يوصي تلاميذه قبل الاختبار و التجريب دوما قائلا لكل تلميذ: " أترك عباءتك وخيالك عند باب المخبر" ، حيث يؤكد أن الفرضية تقيد الملاحظة فيصبح العالم أسير أوهامه وتخيلاته اللامتناهية وهو ما ينعكس سلبا على التجربة ويحول دون إدراك الحقيقة العلمية ويشوه صورتها الصادقة وهو ما أقره آلان عندما قال : " إننا لا نلاحظ إلا ما افترضناه من قبل" ، وفي سبيل تجاوز تلك العوائق يكتفي ماجندي بالملاحظة فقط فيختزل مراحل المنهج التجريبي إلى الملاحظة والتجربة والقانون حيث نجده يقول : " إن الملاحظة الجيدة تغنينا عن سائر الفروض " ، ومن أجل تمكين الباحث من هذا الانتقال المباشر من الملاحظة إلى التجربة يقترح فرانسيس بيكون طرقا استقرائية تضمن اليقين دون الحاجة إلى وضع الفروض ، لا من خلال الرفض القاطع للفرض بل من خلال انحيازه للتجربة لأنه كان دوما ينصح طلبته بالاهتمام بالتجربة و بتحقيقها بكل شروطها حيث يقول : '' يكفي أن نترك التجربة تحل بنفسها في ذهننا حتى ندرك الكيفية التي تنجز بها الوقائع المحسوسة '' . ثم جاء بعده جون ستيوارت ميل فنظم تلك الطرق وأخرجها في أربع صياغات وقواعد أساسية أولها : طريقة التلازم في الحضور أي تلازم العلة والمعلول في الوجود دائما ، فإذا وجدت العلة وجد معها المعلول بالضرورة ، لكن التلازم في الحضور لا يدل دلالة قاطعة على أن إحدى الظاهرتين علة للأخرى ، إذ قد يكون الاثنان نتيجة لظاهرة ثالثة ما تزال خفية ، لذلك وضع جون ستيوارت ميل ثاني قاعدة متمثلة في : طريقة التلازم في الغياب والتي تعد عملية سلبية للتلازم في الحضور أي كلما غابت العلة غاب المعلول بالضرورة ، ثم يضيف ثالث طريقة وهي : التلازم في التغير والتي تعني أن كل تغير في العلة ينتج عنه بالضرورة تغير في المعلول وأخيرا طريقة البواقي التي تفيد أن لكل ظاهرة علة ولا يمكن أن تكون علة واحدة لظاهرتين مختلفتين ، وكل هذه الطرق السالفة تغنينا حسب جون ستيوارت ميل عن وضع الفروض وتستبعد الأحكام والتصورات والمعتقدات المسبقة التي يحملها العقل كمعطيات أولية مقترضة فيكتفي باستنطاق الطبيعة دون أي تدخل للذاتية التي تفرضها الفرضية ويؤكد ذلك بقوله :" إن الطبيعة كتاب مفتوح لإدراك القوانين التي تتحكم فيها وما عليك إلا أن تطلق العنان لحواسك" ، كما أكد أوغست كونت على أن الطريقة العلمية تختلف عن الطريقة الفلسفية فهي ليست بحاجة إلى التأويل العقلي بل إلى الوصف من خلال إجراء التجارب ، وهو الأمر الذي أكد عليه ارنست ماخ قائلا : " المعرفة العلمية تقوم على انجاز تجربة مباشرة " .
وقد وافق هذا الموقف العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن إذ يؤسس موقفه على ضم الفرض إلى جملة الأحكام المسبقة التي لا تتلائم مع العلم، و يؤكد على نهائية موقفه بقوله أنه أثناء البحث و الدراسة و بعد الملاحظة يعمد إلى التجريب مباشرة و يتضح هذا جليا من خلال قوله : '' إنني لا أكوّن فروضا '' ، فالفرض بالنسبة لنيوتن يشكل خطرا لأنه يفتح الباب أمام العقل ليدلي بتصريحات منافية للطبيعة و العلم ينطلق من قوانين محققة لا من فروض، لكن لا يفهم من هذا الكلام رفضه التام للفرض و أنه لم يستند إليه في تجاربه ، بل يفهم منه الدعوة إلى تجنّب التمادي في الافتراض خصوصا ذلك الذي لا يمكن تحقيقه واقعيًّا .
لكن ورغم كل تلك السلبيات التي شخصها الموقف التجريبي فإن الفرضية تبقى خطوة ضرورية في المنهج التجريبي لأن كون وجود تلك السلبيات لا يعني ضرورة التخلي عن الفرضية بقدر ما يستوجب العمل على تجاوزها وتصحيحها وهو ما يقره المنهج التجريبي المعاصر الذي اعتمد الفرضية كخطوة ضرورية وثابتة في العمل التجريبي ، لكن مع تطوير مفهومها وشروطها حتى تتوافق مع الروح العلمية الموضوعية. كما أن هذا الطرح تجاهل أن الاستقراء وطرقه لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تعوض دور الفرضية ، لأنها تعتمد على الطابع الحسي دون سواه ، بينما القانون يعتمد على الإبداع والاكتشاف والتخمين .
وبخلاف الموقف الأول يرى العديد من العلماء والفلاسفة ومن بينهم هنري بوانكاريه وكلود برنارد ...أن الفرضية خطوة منهجية ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها في البحث التجريبي ،ويؤكدون على أهميتها و قيمتها العلمية العميقة و العالية ، فالفرضية من هذا المنطلق أساس و دفّة موجِّهة للإستقراء و حركته في البحث و الاكتشاف ، حيث نجد كلود برنارد يقرر بأن الفرض العلمي هو المنطلق الضروري لكل استدلال تجريبي فلو لا الفروض لما استطاع العالم أن يجرب ، و نجد أن كلود برنارد لا يتكلم باستخدام مصطلح فرضية بقدر ما يستخدم مصطلح '' الفكرة '' و من ذلك يشرح آلية عمل التفكير العلمي وهو ماقصده حين قال : '' إن الملاحظة توحي بالفكرة ، و الفكرة تقود إلى التجربة و توجّهها و التجربة تحكم بدورها على الفكرة '' و هذا هو نظام العمل المخبري البيولوجي الناجح الذي أسس له كلود برنارد من خلال كل دراساته الحيوية الحديثة المنتجة .
ومنه فغياب الفكرة والتي هي الفرضية يؤدي إلى غياب التجربة وهنا بالذات تبرز قيمة الفرضية من حيث أن الباحث يستوحي صورة التجربة و إعادة تكرار الظاهرة اصطناعيا من الفرضية ، و بالتالي فلا مجال للاستغناء عنها لأن ذلك يؤدي ضرورة إلى الجهل بالتجربة والتي تعد عماد المنهج التجريبي كما يقول برنارد : "إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنطلع على طبيعة الأشياء " ، ويوافقه في هذا الطرح العالم الرياضي المعاصر هنري بوانكاريه حيث يعتقد هذا الأخير أن خيال العالم لا يؤدي إلى هالة خرافية أو أحكام غير مدروسة بل هو ضروري لسبب واحد هو أن خيال العالم محكوم و محدد بشروط و قواعد و ضوابط مؤسسة له، و من هنا انتقد هنري بوانكاريه موقف نيوتن و رأى أنه '' لا علم بغير فرض '' و يقول أيضا:'' إن الملاحظة و التجربة لا تكفيان لإنشاء العلم فمن يقتصر عليهما يجهل صفة العلم الأساسية " ، فالواقعة الطبيعية حسب العقلانيين خرساء ليست هي التي تهب الفكر بل العقل و الخيال ، فالعلة تكون في بداية البحث خفية وعلى الباحث أن يتخيلها ويفترضها ثم بعدها يمتحنها بالتجريب فمثلا "توريشلي" لم يلحظ ظاهرتين متلازمتين في الحضور كما يدعي " جون ستيوارت ميل" و هما الضغط الجوي وعدم ارتفاع الماء أكثر من 22.10م ، بل الظاهرة التي كانت واقعة تحت الملاحظة إنما هي ارتفاع الماء فقط ، أما الضغط الجوي فلم يكن ملحوظا من معطيات التجربة بل كان أمرا يتطلبه التفسير لذلك عمد الباحث إلى افتراضه ولولا هذا الافتراض الذي هو عمل عقلي بحت يستعين به الباحث على اكتشاف أسرار الطبيعة لما تقدم خطوة واحدة إلى الأمام في تفسير الظواهر والكشف عن عللها .
وبالإضافة إلى كل هذا فإننا نجد العالم العربي المسلم ابن الهيثم يسبق كل هؤلاء المفكرين إلى الإقرار بقيمة الفرضية وذلك يظهر في قوله : "إني لا أصل إلى الحق إلا من آراء تكون عناصرها أمورا حسية وصورتها عقلية".
إن أصحاب هذا الموقف تجاهلوا أن الفرضية باعتمادها على الخيال قد تبعدنا عن الواقع وتدخلنا في متاهات يصعب الخروج منها ، ثم انه كثيرا ما نفترض والواقع يكذب افتراضنا ، ذلك لأن الافتراض تخمين وبالتالي فهو ظن ولا يصدق الظن دائما ، كما أن الواقع العلمي يقر رغم قيمة الفرضية بوجود العديد من السلبيات التي تنجر عن التأويل المسبق للظاهرة العلمية وما يفرضه من حدود الذاتية الضيقة التي تحاصرها أوهام الباحث ومعتقداته الأولية ، والتي من شأنها أن تسير التجربة نحو نتيجة مفترضة من قبل وهو ما يحول دون البحث العلمي الموضوعي المتحرر من الآراء الشخصية .
يمكن القول أن كلى الموقفين يمثل توجه دوغماتي أحادي حيث نجد أن أحدهما اكتفى بإبراز سلبيات الفرضية دون أدنى إشارة إلى فائدتها بمقابل موقف آخر بقي عند حدود إبراز إجابياتها وفائدتها دون أي توضيح لسلبياتها ، ومهما يكن فإن الفرضية ورغم مالها من مزايا ومساوئ إلا أنها تبقى ضرورة منهجية في البحث العلمي المعاصر وهو ما أكدته الروح العلمية المعاصرة كل هذا يؤدي بنا إلى تغليب الموقف الثاني وتبنيه رغم أنه يجب الإقرار أولا أن للفرضية سلبيات محتملة لكنها لا تؤدي أبدا إلى إلغائها والاستغناء عنها كما زعم التجريبيين ويمكن تفسير المغالطة التي وقعوا فيها بقول كلود برنارد :" أن الذين أدانوا استخدام الفروض أخطأوا بخلطهم بين اختراع التجربة ومعاينة نتائجها " ، وعلى هذا يمكن القول أنه يجب معاينة التجربة بروح علمية مجردة من الفروض ولكن لابد من الفرض عندما يتعلق الأمر بتأسيس التجربة العلمية. كما أن تاريخ العلم يؤكد أن أهم النظريات العلمية وضعها أصحابها بالاعتماد على الفرضية ، فنيوتن على سبيل المثال كان يضع بحثه نصب عينيه كما أنه كان كثير التأمل لذا قال إيمانويل كانط :" ينبغي أن يتقدم العقل إلى الطبيعة ماسكا بيد المبادئ وباليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادئ" . ثم إن القواعد التي وضعها جون ستيوارت مل غير كافية نظرا لطابعها الحسي فهي بحاجة إلى الحدس العقلي قال غا ستون باشلار :" إن التجربة والعقل مرتبطان في التفكير العلمي فالتجربة في حاجة إلى أن تفهم والعقلانية في حاجة إلى أن تطبق ".
ومن التحليل السابق نستنتج أن الفرض العلمي هو المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبيتها وحركيتها سواء ثبتت صحته أم لم تثبت لأن الفرض الخاطئ سيساعد على توجيه الذهن إلى فرض خاطئ وهكذا ، ومع المحاولة والخطأ سيصل الباحث لامحالة إلى الفرض الصحيح٬ ويبقى بين هذا وذاك التأكيد على قيمة المنهج التجريبي الحديث الذي افتتحه فرنسيس بيكون من خلال أورغانونه الجديد ثم طوره من بعده " جون ستيوارت ميل" وغيره من العلماء المعاصرين والدليل هو تلك الثورة العلمية الجذرية التي شهدها العلم المعاصر بفضل تطبيقه للمنهج التجريبي الذي يقوم على الفرضية والملاحظة والتجريب .