مقال جدلي حول عوامل الإدراك هل الإدراك محصلة لنشاط الذهن أم تصور لنظام الأشياء سنة 3 آداب وفلسفة
خاص ب 3 اداب وفلس
* السؤال : هل الإدراك محصلة لنشاط الذهن أم تصور لنظام الأشياء ؟
* الأسئلة المشابهة :
- هل إدراكنا تابع لموضوعات العالم الخارجي لا غير ؟
- هل تقتصر عملية الإدراك على الموضوع المدرك فقط ؟
- هل تتوقف العملية الإدراكية على إنتظام الأشياء ؟
_ هل الادراك نتيجة للعوامل الفردية فقط ؟
___________________
( طرح المشكلة ) :
يعتبر الإدراك أحدى أهم العمليات النفسية التي يستعين الإنسان بها لمعرفة العالم الخارجي والتكيف معه باعتباره عملية مكملة لدور للإحساس ومتجاوزة له في الوقت نفسه ، وهذا لما يقوم به من تنظيم لإحساساتنا الواردة من العالم الخارجي وتفسيرها ، فهو عملية عقلية معقدة تتداخل فيها مختلف القدرات الذهنية للإنسان ، حيث يعرفه جميل صليبا بأنه " حصول صورة الشيء في العقل سواء كان ذلك الشيء مجردا أو ماديا ، جزئيا أو كليا ، حاضرا أو غائبا " ، إلا أن عملية الإدراك تختلف من إنسان لآخر نظرا لوجود جملة من العوامل و الشروط التي تحكمها ، وهذا ما مثل محور جدال و إختلاف بين الفلاسفة والمفكرين ، فهناك من يرى أن الإدراك نشاط ذاتي يخضع لعوامل ذاتية متعلقة بالشخص المدرك ، وهناك من أرجعه إلى عوامل موضوعية متعلقة ببنية الموضوع المدرك ، ومن هذا الجدال الفلسفي وجب طرح الإشكال التالي: هل الإدراك محصلة للعوامل الذاتية أم هو مجرد تصور للبنية الخارجية للأشياء ؟
أو بصيغة أخرى : هل الإدراك يعود إلى عوامل ذاتية بحتة أم إلى مجمل العوامل الموضوعية ؟
(محاولة حل المشكلة)
عرض الأطروحة : الإدراك تتحكم فيه عوامل ذاتية
إن عملية الإدراك تتوقف في مجملها على مجموعة العوامل الذاتية المتعلقة منها بالحالة العقلية والنفسية والجسمية للإنسان كالتخيل ، الذكاء ، الذاكرة والإنتباه و غيرها ، وهي عوامل يمكن من خلالها تفسير التباين الحاصل على مستوى ادراكات الأشخاص للموقف الواحد ، ويمثل هذا الموقف كل من " ديكارت ، آلان ، باركلي" و حججهم في ذلك ما يلي :
ان الادراك عملية عقلية ذاتية لا دخل للموضوع المدرك فيها ، حيث ان إدراك الشيء ذي أبعاد يتم بواسطة أحكام عقلية نصدرها عند تفسير المعطيات الحسية ، لذلك فالادراك نشاط عقلي تساهم فيه عوامل ووظائف عقلية عليا من بينها الخبرة والذاكرة ، فنحن ندرك الأشياء في ضوء ما خبرنا وما مر بنا من تجارب ، ويترتب على ذلك أنه كلما كانت الأشياء التي ندركها في الوقت الراهن تقع في إطار خبراتنا الراهنة يسهل علينا إدراكها من تلك التي لم تقع في نطاق خبرتنا السابقة ، مثلا عندما ندخل قسما و نرى معادلات في السبورة ندرك أنه درس رياضيات لمعرفتنا السابقة بهذه المادة أما الجاهل بهذه المادة يرى ما نرى لكنه لا يدرك ما ندرك ، ويؤكد ذلك ما ذهب اليه ( آلان ) في ادراك المكعب ، فنحن عندما نرى الشكل نحكم عليه مباشرة بأنه مكعب ، بالرغم أننا لا نرى إلا ثلاثة أوجه وتسعة اضلاع ، في حين ان للمكعب ستة وجوه و اثنا عشرة ضلعا ، لأننا نعلم عن طريق الخبرة السابقة أننا اذا أدرنــا المكعب فسنرى الأوجه والأضلاع التي لا نراه الآن ، ونحكم الآن بوجودها ، لذلك فإدراك المكعب لا يخضع لمعطيات الحواس بل لنشاط الذهن وأحكامه ، يقول في هذا آلان : " إن الإدراك حكم عقلي " .
ويؤكد ( باركلي ) أن الأكمه ( الأعمى ) اذا استعاد بصره بعد عملية جراحية فستبدو له الأشياء لاصقة بعينيه ويخطئ في تقدير المسافات والأبعاد ، لأنه ليس لديه فكرة ذهنية او خبرة مسبقة بالمسافات والأبعاد ، وحالة الأكمه تماثل حالة الصبي في مرحلة اللاتمايز ، فلا يميز بين يديه والعالم الخارجي ، ويمد يديه لتناول الأشياء البعيدة ، لأنه يخطئ – أيضا – في تقدير المسافات لانعدام الخبرة السابقة لديه لذلك ، يقول : " إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة و الخبرة في توجيه الإدراك " ، كما ترتبط عملية الإدراك بالإرادة والتركيز لأن هناك : الكثير من الأمور التي لا تدرك بسهولة وتحتاج حينئذ للإرادة ، وتركيز الوعي نحو الموضوع ، وهذا من أجل معرفة تفاصيله ، كالطبيب الذي يفحص المريض من أجل تشخيص المرض ، أو الميكانيكي الذي يريد معرفة العطب الموجود في السيارة ، كما أن للشعور والحالة النفسية و ما يرتبط بها من ميول و رغبات و أهواء تأثير على عملية الإدراك ، وذلك أن إدراكنا للعالم الخارجي لا يكون ثابتا بل متغيرا حسب حالتنا الانفعالية ، ففي الحزن نرى العالم كئيبا أسودا و في الفرح نراه جميلا ملونا ، و في الخوف نراه مرعبا و هكذا ... و أما الأشياء التي لا تثير انفعالاتنا تبقى خارجة عن ساحة الإدراك ، كما الإنسان يدرك بسهولة الأمور التي تتفق مع ميوله ورغباته وأما الأشياء التي تتعارض مع ميوله فلا يدركها إلا بصعوبة أو يدركها إدراكا مشوها ، فرؤية الفنان إلى الطبيعة تنصب على الألوان والأضواء ومدى تناسبها ، أما القائد العسكري يراها كما لو كانت تصلح لإعداد خطة حربية معينة ، والمهندس يراها منطقة ملائمة لبناء سكنات ومرافق رياضية ، والفلاح بدوره يرى فيها حقول من كل أنواع الخضر والفواكه ، وهكذا يتأثر الإدراك بالميول والاهتمامات الخاصة ، ونجد من العوامل الذاتية كذلك عامل العاطفة ، ويتضح أثرها من خلال أن الشخص الذي نحبه مثلا لا ندرك فيه إلا المحاسن ، أما الشخص الذي نكرهه لا نرى فيه إلا المساوئ ، فنظرة الأم إلى ابنها تختلف كل الاختلاف عن نظرة الغير له نظرا لميلها العاطفي نحوه ، وكذا عامل التوقع الذي يعني أن الإنسان يدرك الأشياء كما يتوقع أن تكون والموضوعات التي تخالف توقعه يصعب عليه إدراكها ، فقد يحدث مثلا أن نرى إنسانا نعرفه ولكن ندركه بصعوبة لأننا لم نتوقع الإلتقاء به ، كما لا يمكن تجاهل عاملي السن والمستوى الثقافي و التعليمي ، حيث نجد أن إدراك الراشد للأشياء يختلف عن إدراك الصبي لها ، وادراك المتعلم أو المثقف يختلف بطبيعة الحال عن إدراك الجاهل ، فإدراك شاب مهتم بالسيارات و آخر غير مهتم لسيارة متوقفة أمامهما يختلف ، فالأول يدرك نوعها و سرعتها وكل تفاصيلها أما الثاني فيدركها كسيارة فقط ، كما أن للتعود دورا لا يقل عن دور العوامل السابقة ، فالعربي مثلا في الغالب يدرك الأشياء من اليمين إلى اليسار لتعوده على الكتابة بهذا الشكل ولتعوده على البدء دائما من اليمين ، بعكس الأوروبي الذي يدرك من اليسار إلى اليمين .
نقد :
صحيح أن للعوامل الذاتية دورا في عملية الإدراك ، لكن هذه العوامل وحدها لا تكفي ، فالعقل وحده لا يؤدي إلى الإدراك إذا كان الشيء معاقا بعوائق خارجية ، كما أن بعض الأشياء يصعب إدراكها رغم توفر كل العوامل الذاتية و ذلك لإحتوائها على صفات وخصائص في بنيتها يجعل من إدراكها أصعب من غيرها ، وهذا ما أغفله الذاتيين ، ففي بعض الأحيان قد تتوفر هذه الشروط الذاتية ولا يحصل الإدراك أو يكون الإدراك غير واضح نظرا لطبيعة الشيء المدرك وشكله ومدى انتظام عناصره .
عرض نقيض الأطروحة :
الإدراك تتحكم فيه عوامل موضوعية
إن الإدراك يتوقف على فاعلية الموضوع و بنيته الخارجية ، فطبيعة الشيء المدرك هي التي تحدد درجة إدراكنا ، فإدراك الأشياء عملية موضوعية وليس وليد أحكام عقلية تصدرها الذات ، فالعالم الخارجي منظم وفق عوامل موضوعية وقوانين معينة هي " قوانين الانتظام " ، ويمثل هذا الموقف رواد المدرسة الجشطالتية وهم " كوفكا ، كوهلر ، فيرتهايمر وبول غيوم " ، وحججهم في ذلك مايلي :
إن الإدراك لا يعود إلى عوامل عقلية ذاتية بقدر ما يعود إلى الشكل الخارجي والبنية بأكملها ، وانتظام هذه البنية أو تفككها في المجال البصري هو الذي يحدد نوع الإدراك ، يقول بول غيوم : " إن الوقائع النفسية صور ، أي وحدات عضوية تنفرد وتتحدد في المجال المكاني وألزماني للإدراك أو التصور ، وتخضع الصور بالنسبة للإدراك لمجموعة من العوامل الموضوعية " ، فالإدراك يخضع لجملة من القوانين التي هي عبارة عن عوامل موضوعية تحكم المجال الإدراكي للإنسان ومن بين أهم هذه العوامل نجد عامل الشكل والأرضية ، حيث ندرك الأشكال أولا ثم الأرضية بعد ذلك ، لأن الشكل يكون أكثر وضوحا وأسهل للإدراك من الأرضية ، فعندما نضع قطعة قطن على أرضية مثل لونها ( الثلج ) لا نستطيع إدراكها على العكس عندما نضعها على أرضية سوداء ، فالموضوع يكون أكثر وضوحا في العملية الإدراكية عندما يكون على أرضية مناسبة ، وهذا ما أكده ( كوهلر ) في قوله : " إن الحقيقة الرئيسية في المدرك الحسي ليس العناصر و الأجزاء التي يتألف منها الشيء بل شكله و بناؤه العام " . وكذلك نجد قانون الإنتظام ، حيث أن العناصر الجزئية لما تنتظم تكون صورة كلية فيكون إدراكنا للكل دائما أسبق من الجزء ، فنحن ندرك صورة الشجرة قبل الأغصان و الأوراق و صورة الوجه قبل العين والأنف و صورة القسم قبل الطاولة ومكان التلميذ ، كما أن الصور والأشياء البارزة تكون أولى بالإدراك من غيرها ، فالنجمة الساطعة في السماء ندركها قبل غيرها وهذا ما يعرف بقانون البروز ، يقول ( كوفكا ) : " إن عامل الإنتظام والبروز كافي لعملية الإدراك " ، إضافة إلى ذلك نجد قانون التشابه ، ومعناه أن الأشياء المتشابهة في الحجم و الشكل و اللون نميل إلى إدراكها كصيغ متميزة عن غيرها ، فالإنسان يدرك أرقام الهاتف بسهولة إذا كانت متشابهة ، وكذلك قانون التقارب والذي فحواه أن الأشياء المتقاربة في الزمان أو المكان يسهل علينا إدراكها كصيغة متكاملة ، فنحن ندرك كراسي حجرة الجلوس كوحدة متكاملة نتيجة تقاربها ، كما أن الإنسان في ادراكاته يميل إلى سد الثغرات أو النقائص أو التغاضي عنها ، فنحن ندرك الأشياء الناقصة كما لو كانت كاملة ، فالدائرة الناقصة في بعض أجزائها ندركها كاملة و هذا ما يعرف بقانون الإغلاق ، وإضافة إلى قوانين الإنتظام نجد من العوامل الموضوعية كذلك عامل الحركة لأنها تولد الإنتباه ، فنحن ندرك الجسم المتحرك قبل الجسم الساكن ، كأن تتجه أنظارنا نحو الشهاب بدل النجوم الثابتة ، وكذا عامل البيئة الإجتماعية ، إذ أن إدراك الإنسان يتشكل حسب المعايير التي حددتها البيئة الإجتماعية التي ينتمي إليها ، فالبدو لا يدركون الأشياء كما يدركها الحضر ، فكل بيئة لها خصائص تنعكس على أذهان أبنائها ، و لهذا كانت التربية التي يتلقاها الفرد من أسرته و مجتمعه عاملا أساسيا في تحديد مجال إدراكه .
نقد :
لا يمكن إنكار دور العوامل الموضوعية من تأثير في عملية الإدراك إلا أن الإلحاح على أهمية العوامل الموضوعية في الادراك وإهمال العوامل الذاتية لاسيما دور العقل ليس له ما يبرره ، فهذا الطرح يجعل من الشخص المدرك آلة تصوير أو مجرد جهاز استقبال فقط مادامت الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه سواء أراد ذلك أو لم يرد ، مما يجعل منه في النهاية مجرد متلقي سلبي منفعل لا فاعل .
التركيب :
إن عملية الإدراك تتأثر بعوامل كثيرة منها ما يرتبط بطبيعة الشخص المدرك ، ومنها ما يرتبط بطبيعة الشيء المدرك ، ولن يتم الإدراك إلا من خلال تحالف الشروط الذاتية مع الشروط الموضوعية وهذا ما ذهبت إليه المدرسة الظواهرية التي ترى أن الإدراك هو عملية متعددة الأبعاد ، فهو قائم على التفاعل بين الذات و الموضوع ، وهكذا يغدو وعي الإنسان فعلا موجها نحو الخارج عن طريق فكرة القصدية ، أي هناك موضوع وهناك ذاتا تقصده ، وبالتالي لا يفهم الإدراك من خلال ذات دون موضوع و لا موضوع دون ذات ، فكل إدراك هو شعور بموضوع ، وهذا ما قصده ( هوسرل ) في قوله : " الشعور دائما هو الشعور بموضوع ما " .
( حل المشكلة ) :
و في الأخير نستنتج أن الادراك من الوظائف الأكثر تعقيدا ، وهو عملية تساهم فيها جملة من العوامل بعضها يعود إلى نشاط الذات وبعضها الآخر إلى بنية الموضوع ، وهذا على اعتبار أن هناك تفاعل حيوي بين الذات والموضوع ، فكل إدراك هو ادراك لموضوع ، ولكن على أن يكون لهذا الموضوع خصائص تساعد على إدراكه ، فالادراك لا يعود إلى فاعلية الذات فقط أو إلى بنية الموضوع فحسب ، وهذا من حيث أنه لا وجود لإدراك بدون موضوع ندركه ، ولذلك يمكننا القول أن الادراك يعود إلى تفاعل مزدوج ودائم بين العوامل الذاتية و الموضوعية .