تحليل نموذج شعري من شعر تجديد الرؤيا للسياب:
تشكيلُ الواقع بين عمق الرؤيا وبعدِ الرؤيةِ
سنة 2 ثانوي
لغة عربية للسنة الثانية ثانوي اداب وعلوم انسانية
هلاً بكم طلاب وطالبات في موقع الحل المفيد الموقع الإلكتروني التعليمي يسرنا أن نطرح بين يديكم إجابة السؤال القائل تحليل نموذج شعري من شعر تجديد الرؤيا للسياب: تشكيلُ الواقع بين عمق الرؤيا وبعدِ الرؤيةِ سنة 2 ثانوي
وتكون اجابتة الصحية والنموذجية للسؤال هي
تحليل نموذج شعري من شعر تجديد الرؤيا للسياب:
تشكيلُ الواقع بين عمق الرؤيا وبعدِ الرؤيةِ
(قراءة في قصيدة "سربروس في بابل" للسيّاب)-سعيد بكّور، العدد السابع-نوفمبر 2016، المجلة الثقافية الفصلية (مشارف مقدسية) التي كان يصدرها بيت الشعر في فلسطين برئاسة الدكتور الشاعر محمد حلمي الريشة.
تجديدُ الرؤيا بين رهان التجديد ومنزلق التجريد:
عمل شعر تكسير البنية على خرق الإيقاع الخليلي، وهدم صرح بنية القصيدة القديمة التي عمرت ردحا طويلا من الزمن، حيث تم تعويض الشكل القديم بشكل جديد يعبر عن تموجات الشاعر النفسية وعن تجاربه الحياتية والواقعية بكثير من الحرية والانطلاق الفكري والشعوري، ولم يقف تطور الشعر العربي عند ما قام به شعراء تكسير البنية بل واصل حركيته ليثمر ما سمي بشعر الرؤيا، الذي أعاد تشكيل الواقع عبر الرمز والأسطورة، وانطلق بالشّعر الحديث في آفاق الرَّمزية المُغْرِقة في التّجريد، وابتعد به عن الواقع ليُلامس تُخُومَ الحُلم، ويستشرفَ الغدَ والمستقبلَ، ويشرئِبَّ للآتي والمقبِل، ويتطلع إلى عالم ممكن يتجاوز الواقع الكائن.
والرؤيا في أبسط تعاريفها الحلمُ واستشرافُ المستقبل، وشعر الرؤيا ، بهذا، تصوُّرٌ جديدٌ للواقع يرُومُ تغييرَ المفاهيم السائدة ونظام الأشياء، أي إنَّه استكشافٌ واستشرافٌ للمستقبل، وهو أيضا تطلُّع إلى عالم ممكن وتعالٍ عن واقعٍ كائنٍ، كما أنَّه موقف من الواقع مبني على الإدراك العميق للأشياء.
لقد تغير مفهوم الإبداع لدى شعراء هذا التيّار ومنظّريه، خاصة أدونيس وخالدة سعيد، ومن لفّ لفّهم، بأن صار "رفضا للتقليد والشكل الثابت واللغة الجاهزة، أو الوعاء الباحث عمّن يملأه، أي أن الإبداع إنّما هو بداية وانقطاع عن واقع قائم وطموح إلى واقع غير محقق ... إنّه ليس سوى توتّر بين راهِنٍ ومحتملٍ نبين قديم للّغة فيه طبيعة الوصف وإعادة إنتاج ما هو موجود ، وبين جديدٍ مَهَمَّةُ اللغة فيه هي الكشف الذي يعني تجاوزَ المثال المحقَّقِ ، بابتكار مثال ما يلبَثُ أن يُنقض لأنَّ كل متحقِّق يصبح منطلقا وكل إبداع إنّما هو صيرورة دائمة أي تجريب دائم .
ولا مِراء في أنّ النظر إلى الإبداع على أنّه صيرورة دائمة وتجريب دائم، فتَح شعرَهم على عوالم الإبهام والتجريد والإحالة والتّعمية، فلم يعودوا يهتمون بالمتلقّي الذي يفترض أن يكون هدفهم .
ومن التسميات التي التصقت بتيار تجديد الرؤيا، ما يمكن الاصطلاح عليه بتيار التجريد "الذي تكاد تستغرقه دعوة التّجاوز الميتافزيقي والصوفي، وهو تيّار مثقَل بالخبرات الثقافية المجرّدة أكثر من الخبرات الإنسانية الحيّة، يهتمّ اهتماما بالغا بالتفجيرات الشكلية، يتخلى تمام في أغلب الأحيان-وبخاصة في المرحلة الأخيرة-عن الأوزان التقليدية وحتّى عن التفعيلة الواحدة، فضلا عن القافية، ويتبنَّى ما يسمى بقصيدة النثر ويدعو إلى القطيعة مع الذاكرة الشعرية التراثية، وتصبح قضيّته الأساسية هي المغامرة التعبيرية باللغة وفي اللغة..." .
ويقوم شعر الرُّؤيا -في العموم- على الكشف والتّوليد والخَلْق ، يعبِّر عن الواقع بلغة غير مألوفة ، لغة تقوم على التَّثوير والانفجار والهدم والانتهاك ، وتقف ضد الاعتيادي والمألوف والمتداول والجاهز . وهو إلى جانب ذلك يغوصُ في الأشياء إلى العمق ويعبّر عن الواقع عن طريق ما يسمى بالرَّمز والأسطورة واللغة المُثقلة بالمجاز ، حيث استعاض بذلكَ عن أساليب التَّصوير القديمة من استعارة وتشبيه وكناية.
وقد برع شعراء كثر في هذه المدرسة الشعرية نذكر منهم: البياتي، وأدونيس، ويوسف الخال، وأمل دنقل، وبدر شاكر السياب الذي يعد من رواد قصيدة الرؤيا، إذ يعبّر شعره عن تجربة إنسانية ترمز إلى الحياة البشرية، مرّت حياته الفنية بأربع مراحل هي: المرحلة الرومانسية، والمرحلة الواقعية، والمرحلة القومية، والمرحلة الوجودية، وقد خلف جملة من الدواوين أشهرها "أنشودة المطر".
لم يكن السيّاب من الذين استغرقتهم دعوة التجريد والخروج على المألوف، بشكلٍ يبعد قصائده عن التعبير عن الواقع والنفس والإنسان، فقد كان حريصا على أن يكثّف من حضور الأساطير والرموز في قصائده، لكنه كان لا يلجأ إلى صبّها في أتون النص إلا إذا كانت معبّرة عن التجربة ومضيفة لها، فقد كان توظيفه لها نوعيا في الدرجة الأولى، ويمكن أن نتبيّن ذلك في عدد من قصائده؛ على رأسها قصيدته قيد الدراسة (سربروس في بابل) التي يستدعي فيها أسطورة سربورس وأسطورة تموز وعشتار، ويضمّن أسطورة إيزيس وأوزوريس، ناهيك عن عدد من الرموز، ليعبر عن واقع العراق (أو بابل)، وهكذا تتحول القصيدة إلى معترك أسطوري، أبطاله وأمكنته وأزمنته وأحداثه كلها أسطورية، ويكون بذلك قد ابتعد عن المباشرية في التعبير عن واقع العراق، فسربروس في الواقع الأسطوري ليس إلا عبد الكريم قاسم في الواقع الحقيقي، وبابل هي نفسها العراق، وتموز يغدو رمزا لمن يستطيع انتشال العراق من العقم وواقع الدمار، هكذا تصير الأسطورة والرمز فاعلين في إغناء دلالات القصيدة وانفتاحها على عوالم لا متناهية من الإشارات المتناسلة الدالّة غير المنفصلة عن الواقع.
المحور الدلالي:
جاء عنوان النص مركبا اسميا مكونا من مبتدأ " سربروس " وخبر " في بابل" نقدره بمستقر أو كائن، ومن الناحية الدلالية فسربروس هو ذاك الكلب الأسطوري ذو الثلاثة رؤوس الذي ينفث السم وله ذيل تنين يحرس مملكة الموت، وهو رمز للموت والدمار، أما بابل فهي رمز للعراق الذي يعاني، وهكذا نفهم أن العنوان يحيل على حجم الدمار والخراب والموت والعقم والشر الذي حل ببابل بسبب سربروس الذي ليس إلا "عبد الكريم قاسم " الذي أذاق العراق ما أذاقها من صنوف الدمار.
يعبر الشاعر في قصيدته عما حل بالعراق من دمار وخراب كبيرين، وما أصابه من عقم ومجاعة، معبرا عن توقه إلى أن يتخلص من ألمه، ويولد غد جديد لا دم فيه ولا مشانق ولا مقابر.
هكذا بدأ الشاعر قصيدته بإبراز مظاهر الدمار الذي ألحقه سربروس ببابل، حيث عاث في الأرض فسادا وأهلك الحرث والنسل، وأتى على الأخضر واليابس، وزرع الرعب في النفوس نظرا لوحشيته وصوته المرعب ومنظره المخيف، ولا يكتفي سربورس بكل ما سبق، بل يسعى إلى أن يقتل أي رغبة في الحياة، حيث يعمل جاهدا على القضاء على تموز رمز الحياة ومقاومة الموت، وفي أثناء ذلك يتمنى الشاعر عودة تموز الذي بأوبته سيعود الخصب والعطاء والحياة، وهنا يكشف الشاعر عن مقدار العقم الذي أصاب العراق، حيث لا ثمر ولا زرع ولا ضرع ولا ماء، فقط دم وحبال وحفر، وتنتهي القصيدة بمشهد عشتار وهي تحاول جاهدة لملمة أشلاء تموز المتناثرة أملا في أن تعود إليه الحياة ويعود الخصب إلى العراق، لكن سربروس يحاول جاهدا منعها فتكون ضحيته التالية، وهكذا أضاف إلى الدم القديم دما جديدا، ظانا أنه انتصر، بيد أنّ دماء عشتروت هي التي ستخصب الحبوب وستنبت تموز الذي عادت إليه الحياة من جديد وبعودته سيولد الضياء.
عبر الشاعر في هاته القصيدة عن واقع العراق المدمر، وتطلع إلى مستقبل كله ضياء وخصب، واستثمر في ذلك مجموعة من الأساطير التي تُعبر عن الصراع بين الموت والحياة، والشر والخير، وبناءً عليه استطاع الشاعر أن يجدد في مضامينه وأن يعبر عن رؤياه للواقع.
محور التّشكيل الفني:
تعبر القصيدة في عمقها عن صراع دموي أزلي بين الخير والشر، والنور والظلام، والموت والحياة، وقد جاءت لغة النص عاكسة لهذا الصراع، وهكذا انقسم معجمها إلى حقلين دلاليين: حقل يدل على الموت وينضوي تحته ما يلي: " يمزق الصغار بالنيوب، يشرب القلوب، الردى، يمص عينه إلى القرار ينهش اليدين "؛ وحقل ثان يدل على الحياة ومن الألفاظ والعبارات الدالة عليه نذكر : "ينثر الورود والشقيق، لو يبرعم الحقول، تلمه في سلة كأنه الثمر، تململت ،سيولد الضياء ".
والملحوظ من جرد الحقلين أن كفة الحقل الدال على الموت كانت الراجحة، نظرا لأن الشاعر إنما قصد إلى إبراز مظاهر الدمار والخراب في العراق، وعليه فالعلاقة بين الحقلين قائمة تارة على الصراع أي صراع الحياة والموت، وتارة على السببية حيث إن الموت هو السبب في عودة الحياة.
جاءت ألفاظ القصيدة متسمة تارة بالجزالة والجرْس العالي، وتارة بالليونة والرقة، وهو أمر يعود إلى طبيعة ما يعبر عنه الشاعر؛ فهو عندما يعبر عن الخراب والدمار يستخـدم لغة ذات نفَس تقليـدي وجرْس عال، أما عندما يعـبر عن الحياة فإنّه يستخدم لغة ذات إيقاع هامس شفّـاف تتّسم بقدر كبير من الليـونة، وسواء كانت اللغة جزلة أم لينة، فإن الشاعر حرص على أن تكـون طافحة بالإيحاءات المشعّة، وحبلى بالدلالات الممتدّة.
وإذا اتجهنا ناحية إيقاع القصيدة، وجدنا أنها بنيت بناء هندسيا حديثا يقوم على نظام الأسطر المتفاوتة الطول، والقوافي المتنوعة وأحرف الروي المتعددة، وفيما يخص الإيقاع الخارجي فقد نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة الرجز "مستفعلن"، ووزعها توزيعا متفاوتا تبعا للدفقة الشعورية.
وفيما يتعلق بالقافية فقد جاءت تـارة مركبة وتارة متراوحة، ويعود ذلك إلى تغير الموضوع والأحـاسيس داخل القصيدة، أما حـرف الروي فقد جاء بدوره متعددا "الباء، الميم، القاف"، ويظهر من تعدد القوافي والرويات أن الشاعـر جدد في موسيقاه، وفيما الوقفة العروضية والدلالية فالظاهر أنه يلتزم بها تارة كما في قوله:
عيناه نيزكان في الظلام.
حيث تَحقق ما يسمى بالاتساق وامتلأ المعنى، وتارة لا يلتزم بالوقفة الدلالية والعروضية مما يجعله يخرج إلى التضمين:
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراقْ
يؤج في العراق.
فقد أضاف السطر الثاني لإكمال المعنى الذي لم يتسنَّ له إتمامه في السطر السابق، ومعلوم أن التزام الوقفة أو خرقها يعـود في أصله إلى طبيعة الدفقة الشعورية، والتموجات النفسية والنسق الشعوري، وكذا إلى النَّفَس الشعري، فكلما كان النفس قويا متدفقا ممتدا طويلا احتاج الشاعر إلى التضمين، وكلما كان قصيرا اكتفى بالاتساق.
وإذا ولينا وجوهنا شطر الإيقاع الداخلي وجدناه يتميز بالغنى الناتج، أساسا، عن استخدام التوازي والتكرار، وفيما يخص التوازي حرص الشاعر على توظيفه ليعطي قصيدته الحيوية، وينقذها من الرتابة، ونجد التوازي في قوله: