نموذج تطبيقي تحليل نص الشخص بين الضرورة والحرية
نموذج تطبيقي رقم 3 (الشخص بين الضرورة والحرية)
تحليل ومناقشة نص فلسفي / الامتحان الوطني الموحد ـ الدورة العادية 2016.
1) الفهم
إن قضية حرية الشخص هي من القضايا المركزية التي تهم الفلسفة والفكر الإنساني عموما، لأن التفكير في الحرية هو تفكير في المحددات والشروط الأساسية للوجود الإنساني، سواء محدداته الطبيعية أو خصائصه الجوهرية كالوعي والإرادة والمسؤولية، وهذا ما تحلينا عليه مجزوءة الوضع البشري بكل ما تتضمنه من أبعاد فردانية أو اجتماعية. وقبل أن نخوض في عناصر تحليل ومناقشة النص، لابد من إثارة مجموعة من التساؤلات الإشكالية التي يحيلنا عليها :
– كيف يتحدد موقع الشخص داخل الوجود ؟ هل بوصفه كائنا حرا أم بوصفه كائنا خاضعا ؟ إذا كان حرا، فما طبيعة وأبعاد حريته ؟ وإذا كان خاضعا، فما هي الضرورات والحتميات التي يخضع لها ؟ وبأي معنى يمكن القول بأن الحرية هي أهم رهانات الوجود البشري ؟
2) التحليل
من خلال قراءتنا وفهمنا لهذا النص المعطى، يتبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنه ينفي بشكل مطلق حرية الشخص، في مقابل أنه يؤكد على أطروحة صريحة مفادها » أن تصرفات الأشخاص لا تكون حرة، أبدا، بل هي دائما نتاج سلسلة من الضرورات المرتبطة بأمزجتهم وأفكارهم المسبقة «. وصاحب النص إذ يؤكد هذه الأطروحة فإنها يعرضها من خلال مجموعة من القضايا والأفكار المترابطة؛ ففي مُستهل النص يعرّف الإنسان بأنه كائن طبيعي، وبالتالي فإن وضعيته الوجودية تجعله خاضعا لقوانين الطبيعة بكل ما تحمله من إكراهات وضرورات. وحتى لو أُتيح للإنسان فرصة الاختيار بين بديلين أو أكثر، فإنه يختار تبعا للدافع الطبيعي الأقوى (دافع الخوف من الموت عطشا ـ دافع الخوف من الموت تسمما)، وهذا ما ينفي حريته بشكل مطلق. إن التأمل في مبنى الأطروحة يجعلنا نقف عند مجموعة من المفاهيم التي لها ارتباط أصيل بالتحديدات الأساسية للوجود الإنساني، ومن بين هذه المفاهيم على وجه التحديد مفهم الإنسان [الشخص] الذي عرّفه صاحب النص بأنه كائن طبيعي، خاضع لقوانين وحتميات الطبيعة. أما مفهوم الضرورة فيقصد به صاحب النص مجمل قوانين الطبيعة التي توّجه وتتحكم في سلوك الشخص سواء كان سلوكا داخليا كالتفكير أو الرغبة مثلا أو سلوكا خارجيا. وعلى خلاف معظم الدلالات الفلسفية التي عرّفت الحرية بكونها القدرة على الاختيار بين بديلين أو أكثر، نجد صاحب النص يعترض على هذا التعريف معتبرا أن القدرة على الاختيار تكون موجهة بضرورة وحتمية طبيعية وبالتالي فإن الحرية ليست هي القدرة على الاختيار.
أما من حيث البناء ألحجاجي والبرهاني فالملاحظ أن صاحب النص قد وظّف مجموعة من الاستدلالات الواقعية من بينها مثال الشخص الذي يشعر بالعطش فيرى الماء وتنتابه رغبة الشرب. فوظيفة هذا المثال هو إضفاء طابع واقعي على الأطروحة ونقلها من مستوى نظري مجرد إلى مستوى مرتبط بالواقع المعيش، حتى يتسنى فهمها. كما استند صاحب النص إلى آلية المقارنة بين الحالة التي يكون فيها الشخص حذرا فلا يشرب من الماء لأنه يعلم أنه مُسمم، والحالة التي يكون فيها الشخص أقل حذرا فيشرب من الماء رغم كونه يعلم بأنه مسمم. وقد جاءت هذه المقارنة في سياق التأكيد على أن الشخص سواء تصرف وفقا للحالة الأولى أو وفقا للحالة الثانية، فإن كلتا الحالتين محكومتان بدوافع طبيعية ( دافع الخوف من الموت تسمما في الحالة الأولى/ دافع الخوف من الموت عطشا في الحالة الثانية). هذا، بالإضافة إلى توظيف مجموعة من المؤشرات والرابط اللغوية والمنطقية لعل أبرزها روابط النفي (لا نتحكم في تكويننا / أفكارنا لا تصدر عنا / لا تعني أبدا انه حر / لا نملك أن نرغب أو لا نرغب... )، وذلك بغرض دحض الفكرة التي تقول بحرية الشخص وقدرته على الاختيار الحر.
3) المناقشة
إن التأمل في هذه الأطروحة سيجعلنا ندرك بأننا أمام موقف مغاير لمعظم التصورات الفلسفية التي جعلت الحرية هي مرتكز الوجود الإنساني، وهي بذلك ـ الأطروحة ـ تكتسب أهميتها الفلسفية وقيمتها المعرفية في كونها تسهم في إغناء النقاش الفلسفي والفكري حول مسألة الحرية. إن أطروحة صاحب النص تتسم بالواقعية وهو ما تؤكده نوعية الاستدلالات الحجاجية التي اعتمد عليها صاحب النص. فقد أعاد الإنسان إلى وضعية الخضوع لحتمية الطبيعة وقوانينها، بدل جعله سيدا عليها ومتحكما فيها. وهذا ما يجعل هذا الطرح الفلسفي يتناغم مع بعض خطابات العلوم الإنسانية (علم النفس/علم الاجتماع/ الانثروبولوجيا...) التي جعلت الشخص خاضعا لحتميات نفسية أو محددات اجتماعية وثقافية أو تاريخية. ومن أجل إضفاء طابع التعدد الذي تتسم به الفلسفة، سننفتح بهذا الإشكال على أطروحة تنسجم مع موقف صاحب النص من مسألة حرية الشخص، وهي أطروحة المحلل النفساني سيجموند فرويد S. Freud الذي يعتبر الشخص كيانا خاضعا لحتمية الصراع النفسي اللاشعوري بين مكونات الجهاز النفسي (بنية الشخص)؛ فالشخصية عند فرويد Freud عبارة عن بنية مركبة من ثلاثة عناصر متصارعة بشكل دائم ومستمر نظرا لتعارض مطالبها ومقتضياتها، وهذا التصارع هو ما يضفي دينامية نفسية لاشعورية عليها، تتحكم في سلوك الشخص وتوجهه. وهذه المكونات هي "الهوid " ويمثل المبدأ الفطري المدفوع بالغرائز الأولية (الجنس، العدوان)، وهو يتميز بالاندفاع والبحث عن الإشباع واللذة. (2)"الأناego " وهو عنصر مكتسب نشأ نتيجة التجارب الاداركية مع الواقع، وهو بذلك يمثل مبدأ الواقع ويسعى إيجاد انسجام وتوافق بين الشخص والعالم الخارجي عبر مجموعة من الآليات الدفاعية. (3)"الأنا الأعلىsuper-ego " وهو عنصر مكتسب، نشا نتيجة انفتاح الشخص على قيم وثقافة مجتمعه، وهو بذلك يمثل مبدأ القيم والقواعد الاجتماعية والأخلاقية والحضارية التي تُلزم الإنسان بالامتثال لها. يقول فرويدFreud : "إن الحياة النفسية هي صراع بين قوتين، إحداهما تدفع والأخرى تقاوم، والأنا هي ساحة هذا الصراع".
لكن وعلى الرغم من التوافق الحاصل بين أطروحة صاحب النص وأطروحة سيجموند فرويد S.Freud فإن هناك بعض المواقف الفلسفية التي رأت أن الشخص قادر على تجاوز الضرورات والحتميات المحيطة به، ولعل أبرز هذه المواقف الفلسفية تلك التي تبنتها النزعة الوجودية مع ابرز روادها وهو الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر J.P.Sarter . بالنسبة لسارتر فالشخص ذات حرة، والحرية هي جوهر الوجود الإنساني. إن المبدأ الوحيد الذي يُحدد وضعية الشخص هو القول "الوجود يسبق الماهية" ومعنى هذا أن الشخص على عكس باقي الأشياء (الموضوعات) يوجد أولا، ثم يُحدد بإرادته ما يريد أن يكونه، إلا أن حريته مسؤولة عما سيكونه مستقبلا، وهذه المسؤولية تتعداه كذات فردية لتعم الإنسانية جمعاء فالإنسان مشروع (Projet). يقول سارتر : "وحتى أكون مسؤولا عما أكون عليه، لابد لي أن أكون مشروعا، هذه المسؤولية لا تقتصر علي وحدي، بل تمتد إلى الناس جميعا".
4) التركيب
واضح، بعد هذا العرض، أن مفهوم الحرية هو مفهوم فلسفي بامتياز، خاصة عندما نكون أمام أبعاده الإشكالية والمعرفية، فالحرية قد تكون مجرد وهم مستحيل التحقق عندما ننظر إلى الشخص ككائن طبيعي خاضع لضرورات طبيعية وحتميات نفسية لا شعورية محددة بشكل مسبق، وقد تكون هي جوهر الوجود الإنساني عندما ننظر إليه ككائن متفرد قادر على الاختيار بكل وعي وإرادة ومسؤولية. هكذا نفهم الطابع الإشكالي لمسألة الشخص بين الضرورة والحرية، ونقف عند واحد من أهم الرهانات الفلسفية التي تجعلنا نكتشف حقيقة وجودنا الذي يجب أن يكون مختلفا ومتميزا عن باقي أنماط وأشكال الموجودات الأخرى...